تراهن الرياض وباريس على تحقيق نقلة نوعية في تعزيز الشراكات الموثوقة الآمنة، فضلًا عن السعي الجاد لتهدئة مستدامة للنزاعات في المنطقة وتعظيم سياسة تصفير الأزمات، والإسهام في بلورة بدائل مشتركة للتنمية ومكافحة الفقر والتغير المناخي ومجالات التعاون في الطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف، وعززت المملكة الجهود الدولية في العمل لإنجاح اتفاقية باريس للمناخ 2015؛ من خلال إعلان ولي العهد عن مبادرتي “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر” في 2021.
يمكن اعتبار العلاقة السعودية – الفرنسية نموذجًا للشراكة الآمنة التي لا تتغير بل تزداد تعاظمًا مع مرور الوقت تتمّ مراجعتها على ضوء التجارب السابقة، والواقع الحاضر، والرؤية المستقبلية. والمملكة تنشد في تحالفاتها مع الدول احترام سيادتها واستقلال قرارها، وأولوية مصالحها وعدم التدخل في شؤونها أو إملاء أو فرض شروط، فضلًا عن المضي نحو ديمومة هذه الشراكة وفق المصالح المشتركة والندية . وبرز الحرص الدائم من الرئيس الفرنسي ماكرون على ديمومة العلاقة مع المملكة، ليس فقط على الصعيد الثنائي ولكن أيضًا في احتواء الأزمات واعتماد نهج مشترك للأزمات النفطية ومواجهة آثارها السلبية في الاقتصاد والاستقرار.
من هنا جاءت مخرجات لقاء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان؛ ولي العهد، مع الرئيس ماكرون منوعة؛ بدءًا من تعظيم الشراكة الموثوقة وتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة إلى حلحلة مسار الحرب الأوكرانية الروسية إلى إنهاء الأزمة اللبنانية؛ حيث شدد بيان قصر الإليزيه على ضرورة وضع حد سريع للفراغ السياسي والمؤسساتي في لبنان الذي يشكل العقبة الحائلة دون إيجاد حل للأزمة الاجتماعية- الاقتصادية العميقة، فضلًا عن عدم السماح بتفاقم الوضع اللبناني والضغط من أجل إيجاد مخرج إنقاذي يمكن أن تتضح معالمه في الأسابيع القليلة القادمة.
وفي مواجهة عالم متغير ومضطرب تتجلى خصوصية العلاقة بين الرياض وباريس؛ إذ حرصت الأخيرة على التشبث بعلاقتها مع المملكة في الوقت الذي ابتعدت قوى غربية عنها؛ ما أحدث انقلابًا في التوازنات الجيوسياسية لصالح الصين وروسيا، وحرص الرئيس إيمانويل ماكرون على استمرار التقارب مع الرياض متجاهلًا توجهات إدارة بايدن بالابتعاد عن حلفائه الاستراتيجيين في المنطقة؛ حيث أضحت الشراكة الآمنة بين الرياض وباريس نموذجًا للشراكات طويلة الأمد التي تتعاظم مع مرور الوقت.
لفت الأنظار إبداء الرئيس ماكرون حرصه على إعادة تأكيد رغبة الشركات الفرنسية في مواكبة المملكة بمشاريعها الطموحة في إطار “رؤية 2030″، وأبرزها: مشاريع “الانتقال الطاقوي” وإنتاج الطاقة النظيفة الشمسية والهيدروجين والتقنيات الجديدة. ويبدو أن المجموعات والشركات الفرنسية التي زاد عددها ونشاطها داخل المملكة منذ زيارة ولي العهد في 2018 تتطلع أيضًا للاستثمار والتبادل في المجالات المتنوعة مثل: الأمن والدفاع.
ولم يكن سرًا طلب الرئيس ماكرون من سمو ولي العهد -بحسب ما ورد في الإعلام الفرنسي- بذل جهد خاص لدى الرئيس بوتين من أجل وقف الحرب مع أوكرانيا؛ كون الرئيس الفرنسي يعلم قوة ومكانة ولي العهد لدى الرئيس بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي؛ ولإيجاد مخرج للنزاع وتكثيف التعاون من أجل خفض تأثيرات الحرب في أوروبا والشرق الأوسط.
لقد غابت فرنسا لفترة عن المنطقة العربية، ولكن يبدو أن هنالك تحولًا في قصر الإليزيه؛ حيث زادت الأهمية الاستراتيجية للمملكة بعد الحرب الأوكرانية وجاءت زيارة ولي العهد لفرنسا لمدة عشرة أيام لتكرس الطابع الخاص للعلاقات السعودية-الفرنسية استنادًا إلى شراكة استراتيجية متجذرة ومتنوعة، وأواصر من الثقة نسجها ولي العهد بحنكته وحكمته، خصوصًا أن باريس تعتبر الرياض “حليفًا وشريكًا وثيقًا” يلعب دورًا رئيسيًا في الحفاظ على الأمن والسلم الإقليمي واستقرار المنطقة.. وتجيء مشاركة المملكة بوفد رسمي برئاسة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -في إطار زيارة العشرة أيام- في “القمة الفرنسية للتحالف المالي والعالم الجديد”، تلبية لدعوة من الرئيس الفرنسي ماكرون، يومي 22 و23 يونيو الجاري؛ نظرًا للثقل الاقتصادي النفطي السعودي بما يعكس الدور القيادي للمملكة ومكانتها وتأثيرها العالمي، وحرصها على التعاون مع فرنسا في التصدي للتحديات المشتركة لأمن واستقرار المنطقة والعالم.
وتُعقد القمة في مقر “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية” (OECD)؛ اذ يعوّل فيها الرئيس ماكرون على التعاون السعودي من أجل إصلاح النظام المالي الدولي (إصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف وأزمة الديون، وتمويل التكنولوجيا الخضراء) بعد مرور 80 عامًا على مؤتمر “بريتون وودز”.
وقد تتمخض القمة العالمية -بحسب مصادر فرنسية- عن إبرام اتفاقات للتصدي لعبء الديون المفرطة، وإتاحة الاستفادة من التمويلات الضرورية للمزيد من البلدان؛ بهدف الاستثمار في التنمية المستدامة، وحفظ الطبيعة بصورة أفضل، وخفض الانبعاثات الكربونية، وحماية السكان من الأزمات البيئية، وهي أهداف تدعمها المملكة وعكستها رؤية 2030، ومبادرتا “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”.
وتقدّر المملكة تأييد فرنسا ترشح مدينة الرياض لاستضافة المعرض الدولي إكسبو 2030، ومن المقرر أن يشارك الأمير محمد بن سلمان في حفل استقبال المملكة الرسمي غدًا لترشح الرياض لاستضافة “إكسبو” المقرر عقده في العاصمة الفرنسية.
ويعكس هذا الدعم تنامي وتطور العلاقات والتعاون بين البلدين على جميع المستويات وفي مختلف المجالات.
ويتضح من برنامج زيارة الأيام العشرة للأمير محمد بن سلمان لفرنسا أن التعاون متعدد الأبعاد يضرب جذوره عميقًا بعلاقة تتجدد وصمدت على محك العواصف والتحولات.
وتعود العلاقات بين المملكة العربية السعودية وفرنسا إلى ما يقارب قرن كامل؛ حيث بدأت بوادرها عام 1926 عندما أرسلت باريس قنصلًا لدى السعودية، ثم إنشاء بعثة دبلوماسية في جدة عام 1932.
وتعتبر زيارة ولي العهد الحافلة إلى العاصمة الفرنسية هي الثالثة له منذ توليه مهامه، ويدلل ذلك على حيوية و”دينامية” العلاقات الاستراتيجية.
تم الإعلان في عام ٢٠٢٢ عن تأسيس “مجلس شراكة استراتيجية فرنسي- سعودي” لتعزيز أوجه التعاون في مجالات الطاقة وبناء السفن والفرقاطات في المملكة العربية السعودية.
وعكست زيارة سمو ولي العهد لفرنسا، ومشاركته في القمة الفرنسية للتحالف المالي والعالم الجديد، الدور القيادي للمملكة ومكانتها وتأثيرها العالمي، وحرصها على التعاون مع فرنسا في التصدي للتحديات المشتركة لأمن واستقرار المنطقة والعالم.
وتشترك المملكة وفرنسا في مواقفها وتوجهاتها حيال العديد من الملفات الإقليمية والدولية؛ ومنها: الملف اللبناني والملف السوداني.
ويتطلع البلدان إلى تعزيز الاستفادة من الفرص التي تتيحها رؤية المملكة 2030، والخطة الاقتصادية لفرنسا 2030؛ لتطوير وتعزيز الشراكة الاقتصادية بين البلدين في مجالات: الاستثمار المشترك، الصناعة، الطاقة، الثقافة والتراث، السياحة، التعليم، التقنية، الفضاء، الدفاع والأمن.. وغيرها من المجالات.
وتتوافق أهداف القمة الفرنسية للتحالف المالي والعالم الجديد مع جهود المملكة في مواجهة ظاهرة التغير المناخي؛ من خلال مبادراتها المتنوعة وفي مقدمتها: مبادرتا الشرق الأوسط الأخضر
والسعودية الخضراء، وتبنيها للاقتصاد الدائري للكربون، إضافة إلى التزامها بالعمل مع شركائها لإنجاح اتفاقية باريس للمن
کریڈٹ: انڈیپنڈنٹ نیوز پاکستان-آئی این پی